يحلّل ستيوارت باتريك، الزميل البارز ومدير برنامج النظام العالمي والمؤسسات في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، لحظةً فارقة تمرّ بها منظومة المساعدات الإنسانية العالمية، بعدما اتّسعت الفجوة بين الاحتياجات المتصاعدة والتمويل المتراجع، وتحولت أزمة التمويل إلى حالة طوارئ كاملة يدفع ثمنها الأكثر هشاشة في العالم.
في مطلع عام 2025، اتّسعت الفجوة بين الاحتياجات الإنسانية والموارد المتاحة على نحو غير مسبوق، إذ لبّى المجتمع الدولي نصف متطلبات النداءات الإنسانية الأممية فقط، مع عجز بلغ 24.4 مليار دولار. ثم جاء قرار الإدارة الأميركية تعليق المساعدات الخارجية وخفض المساهمات الإنسانية ليحوّل الأزمة إلى صدمة كبرى. هنا، يختبر العالم صدقية مفهوم “المجتمع الدولي”، وتبرز الحاجة إلى إعادة تخيّل نظام إنساني عالمي بات واضحًا عجزه البنيوي.
اتّساع الاحتياجات وضيق الموارد
تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى احتياج نحو 300 مليون إنسان للمساعدة والحماية خلال عام 2024، مع إعطاء الأولوية لنحو 198 مليونًا منهم. رغم ذلك، وصلت المساعدات إلى قرابة 115.7 مليون شخص فقط، وترك أكثر من 80 مليونًا بلا دعم. تكشف هذه الأرقام، وفق تحليل مؤسسة كارنيجي، حجم المأساة عندما تتحول إلى قصص فردية لأطفال لا يعرفون متى ستأتي وجبتهم التالية.
تولت الولايات المتحدة لعقود دور المموّل الأكبر للمساعدات الإنسانية، إذ ساهمت بنحو 38 في المئة من إجمالي المساعدات الطارئة الأممية عام 2024، بقيمة 14.1 مليار دولار. أخفى هذا السخاء خطرًا هيكليًا تمثّل في اعتماد النظام الإنساني بشكل مفرط على واشنطن، ما جعله هشًا أمام أي تحوّل سياسي مفاجئ.
الصدمة الأميركية وتداعياتها
مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، اتجهت الإدارة الجديدة إلى تقليص المساعدات الخارجية ضمن أجندة “أميركا أولًا”. أوقفت واشنطن التمويل الجديد فجأة، ما أربك سلاسل الإمداد وعرّض مساعدات للتلف، وأجبر منظمات محلية على تسريح موظفين ووقف أنشطة حيوية. رغم استئناف محدود لبعض البرامج المنقذة للحياة، ظلّ نطاق المساعدات أقل بكثير وأكثر غموضًا.
هبط التمويل الأميركي من 14.1 مليار دولار عام 2024 إلى 6.4 مليارات في 2025، مع اقتراح خفض إضافي بنسبة 70 في المئة في موازنة 2026. تزامن ذلك مع إغلاق معظم برامج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وفقدان جزء كبير من الخبرة المؤسسية، وتراجع الدعم لوكالات أممية رئيسية مثل برنامج الغذاء العالمي واليونيسف والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
الأمم المتحدة تحت الضغط وإصلاحات مؤجَّلة
تتناول مؤسسة كارنيجي في هذا السياق استجابة الأمم المتحدة، التي لجأت إلى تقليصات واسعة وتسريحات للموظفين، وأطلقت نداءً “فائق الأولوية” بقيمة 29 مليار دولار يركّز على إنقاذ الأرواح فقط. حذّر منسق الإغاثة الأممي من “خيارات قاسية” ستُفرض، مع حرمان ملايين من خدمات أساسية.
في مواجهة هذا الواقع، يقترح الكاتب أجندة إصلاح عملية تعالج عيوبًا مزمنة طال تجاهلها:
أولًا، تعزيز التوطين عبر نقل مركز الثقل إلى الفاعلين المحليين، الذين يملكون معرفة أعمق بالسياقات وأقل كلفة تشغيلية، بدل التعامل معهم كمنفذين هامشيين.
ثانيًا، ابتكار نماذج تمويل جديدة من خلال توسيع الصناديق المجمّعة وإنشاء آليات مرنة توجّه الموارد مباشرة إلى الجهات القادرة على التنفيذ الفعّال، مستلهمة تجارب مثل أوكرانيا والصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا.
ثالثًا، الاستفادة الحذرة من القطاع الخاص وربط النازحين بالأسواق والتمويل، بما يعزّز قدرتهم على إعادة بناء سبل العيش دون خصخصة العمل الإنساني أو المساس بمبادئه.
الدفاع عن جوهر العمل الإنساني
يؤكد التحليل أن إصلاح النظام لا يقتصر على المال، بل يرتبط بالدفاع عن المبادئ الإنسانية الأساسية: الإنسانية، الحياد، الاستقلال، وعدم التحيّز. تتعرض هذه القيم لانتهاكات متزايدة في نزاعات معاصرة، حيث يستهدف الفاعلون المسلحون المدنيين والعاملين في الإغاثة، ويستخدمون المساعدات أداة ضغط سياسي.
يخلص المقال إلى أن العالم يملك الموارد، لكنه يفتقر إلى التضامن والإرادة السياسية. في عالم ينتج 115 تريليون دولار سنويًا، يصبح تمويل الإغاثة مسألة خيار أخلاقي وسياسي. تبقى الأمم المتحدة، رغم ضعفها المالي، حاملة لدور معياري لا غنى عنه، فيما يحدّد هذا المنعطف مستقبل النظام الإنساني: إمّا التكيّف الجريء، أو الانكماش المؤلم على حساب أرواح الملايين.
https://carnegieendowment.org/research/2025/12/the-painful-seismic-shift-in-humanitarian-aidand-whats-next?lang=en

